بعد
وفاة عثمان تولى الحكم ابنه أورخان وسار على نفس سياسة والده في الحكم
والفتوحات. وفي عام 727هـ الموافق 1327م سقطت في يده نيقوميديا، وتقع في
شمال غرب آسيا الصغرى قرب مدينة اسطنبول وهي مدينة أزميت الحالية، فأنشأ
بها أول جامعة عثمانية..
وحرص السلطان أورخان على تحقيق بشارة
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في فتح القسطنطينية حيث بداية الطريق نحو
أوروبا.. وقد تحدثنا عن فتح القسطنطينية في تقرير سابق حول الخلافة
العثمانية.
وكانت غزوات أورخان منصبة على الروم، ولكن حدث في
سنة (736هـ -1336م) أن توفي أمير (قره سي)، وهي إحدى الإمارات التي قامت
على أنقاض دولة سلاجقة الروم واختلف ولده من بعده وتنازعا الإمارة. واستفاد
أورخان من هذه الفرصة فتدخل في النزاع وانتهى بالاستيلاء على الإمارة.
وقد
كان مما تهدف إليه الدولة العثمانية الناشئة أن ترث دولة سلاجقة الروم في
آسيا الصغرى وترث ما كانت تملكه. واستمر الصراع لذلك بينها وبين الإمارات
الأخرى حتى أيام الفاتح حيث تم إخضاع آسيا الصغرى برمتها لسلطانه.
وأمضى
أورخان بعد استيلائه على إمارة (قره سي) عشرين سنة دون أن يقوم بأي حروب،
بل قضاها في صقل النظم المدنية والعسكرية التي أوجدتها الدولة، وفي تعزيز
الأمن الداخلي، وبناء المساجد ورصد الأوقاف عليها وإقامة المنشآت العامة
الشاسعة؛ مما يشهد بعظمة أورخان وتقواه، وحكمته وبعد نظره. فإنه لم يشن
الحرب تلو الحرب طمعاً في التوسع وإنما حرص على تعزيز سلطانه في الأراضي
التي يتاح له ضمها.
وحرص على طبع كل أرض جديدة بطابع الدولة
المدني والعسكري والتربوي والثقافي؛ وبذلك تصبح جزءاً لا يتجزأ من أملاكهم،
بحيث أصبحت أملاك الدولة في آسيا الصغرى متماثلة ومستقرة.
وهذا يدل على فهم واستيعاب أورخان لسُنة التدرج في بناء الدول وإقامة الحضارة وإحياء الشعوب.
وما
أن تمّ أورخان البناء الداخلي حتى حدث صراع على الحكم داخل الدولة
البيزنطية وطلب الإمبراطور (كونتاكوزينوس) مساعده السلطان أورخان ضد خصمه،
فأرسل قوات من العثمانيين لتوطيد النفوذ العثماني في أوروبا. وفي عام 1358م أصاب زلزال مدن تراقيا فانهارت أسوار غاليبولي وهجرها أهلها؛ مما سهل على العثمانيين دخولها.
وقد احتج الإمبراطور البيزنطي على ذلك دون جدوى، وكان رد أورخان أن العناية الإلهية قد فتحت أبواب المدينة أمام قواته.
ومالبثت
غاليبولي أن أصبحت أول قاعدة عثمانية في أوروبا، ومنها انطلقت الحملات
الأولى التي توجت في النهاية بالاستيلاء على كل شبه جزيرة البلقان.
وحين انفرد (حنا الخامس باليولوجس) بحكم بيزنطة أقر كل فتوح أورخان في أوروبا مقابل تعهد السلطان بتسهيل وصول الطعام والمؤن إلى القسطنطينية.
وأرسل أورخان أعداداً كبيرة من القبائل المسلمة بغية الدعوة إلى الإسلام ومنع تمكن النصارى من طرد العثمانيين من أوروبا.
ومن العوامل التي ساعدت السلطان أورخان في تحقيق أهدافه:
1-
المرحلية التي سار عليها أورخان واستفادته من جهود والده عثمان، ووجود
الإمكانيات المادية والمعنوية التي ساعدتهم على فتح الأراضي البيزنطية في
الأناضول وتدعيم سلطتهم فيها.
ولقد تميزت جهود أورخان بالخطى
الوئيدة والحاسمة في توسيع دولته ومد حدودها، ولم ينتبه العالم المسيحي إلى
خطورة الدولة العثمانية إلا بعد أن عبروا البحر واستولوا على غاليبولي.
2-
كان العثمانيون يتميزون في المواجهة الحربية التي تمت بينهم وبين الشعوب
البلقانية بوحدة الصف ووحدة الهدف ووحدة المذهب الديني وهو المذهب المسلم.
3-
وصول الدولة البيزنطية إلى حالة من الإعياء الشديد، وكان المجتمع البيزنطي
قد أصابه تفكك سياسي وانحلال ديني واجتماعي؛ فسهل على العثمانيين ضم
أقاليم هذه الدولة.
4- ضعف الجبهة المسيحية نتيجة لعدم الثقة
بين السلطات الحاكمة في الدولة البيزنطية وبلغاريا وبلاد الصرب والمجر؛
ولذلك تعذر في معظم الأحيان تنسيق الخطط السياسية والعسكرية للوقوف في جبهة
واحدة ضد العثمانيين.
5- الخلاف الديني بين روما والقسطنطينية
أي بين الكاثوليك والأرثوذكسية الذي استحكمت حلقاته وترك آثاراً عميقة
الجذور في نفوس الفريقين.
6- ظهور النظام العسكري الجديد على أسس عقدية ومنهجية تربوية وأهداف ربانية وأشرف عليه خيرة قادة العثمانيين.
وفي عهد السلطان مراد الأول (761-791هـ /1360-1389م) توسعت الدولة العثمانية في آسيا الصغرى وأوروبا في وقت واحد.
ففي أوروبا هاجم الجيش العثماني
أملاك الدولة البيزنطية ثم استولى على مدينة أدرنه في عام (762هـ/ 1360م)
وكانت لتلك المدينة أهمية إستراتيجية في البلقان، وكانت ثاني مدينة في
الإمبراطورية البيزنطية بعد القسطنطينية.
واتخذ
مراد من هذه المدينة عاصمة للدولة العثمانية منذ عام (768هـ / 1366م)،
وبذلك انتقلت العاصمة إلى أوروبا، وأصبحت أدرنه عاصمة إسلامية، وكان هدف
مراد من هذه النقلة:
1- استغلال مناعة استحكامات أدرنه الحربية وقربها من مسرح العمليات الجهادية.
2- رغبة مراد في ضم الأقاليم الأوروبية التي وصلوا إليها في جهادهم وثبتوا أقدامهم فيها.
3-
جمع مراد في هذه العاصمة كل مقومات النهوض بالدولة وأصول الحكم، فتكونت
فيها فئات الموظفين وفرق الجيش وطوائف رجال القانون وعلماء الدين، وأقيمت
دور المحاكم وشيدت المدارس المدنية والمعاهد العسكرية لتدريب الانكشارية.
واستمرت
أدرنه على هذا الوضع السياسي والعسكري والإداري والثقافي والديني حتى فتح
العثمانيون القسطنطينية في عام (857هـ - 1453م)، فأصبحت عاصمة لدولتهم.
مضى
السلطان مراد في حركة الجهاد والدعوة وفتح الأقاليم في أوروبا، وانطلق
جيشه يفتح مقدونيا، وكانت لانتصاراته أصداء بعيدة، فتكون تحالف أوروبي
بلقاني صليبي باركته الكنيسة، وضم الصربيين والبلغاريين والمجريين، وسكان
إقليم والاشيا.
وقد استطاعت الدول الأعضاء في التحالف الصليبي أن تحشد جيشاً بلغ عدده ستون ألف جندي تصدى لهم القائد العثماني
لالاشاهين بقوة تقل عدداً عن القوات المتحالفة، وقابلهم على مقربة من
(تشيرمن) على نهر مارتيزا، حيث وقعت معركة مروعة وانهزم الجيش المتحالف،
وهرب الأميران الصربيان، ولكنهما غرقا في نهر مارتيزا، ونجا ملك المجر
بأعجوبة من الموت أما السلطان مراد فكان في هذه الأثناء مشتغلاً بالقتال في
بلاد آسيا الصغرى حيث فتح عدة مدن ثم عاد إلى مقر سلطنته لتنظيم ما فتحه
من الأقاليم والبلدان كما هو شأن القائد الحكيم.
وكان من نتائج انتصار العثمانيين أمور مهمة، منها:
- تم لهم فتح إقليم تراقيا ومقدونيا ووصلوا إلى جنوبي بلغاريا والى شرقي صربيا.
- أصبحت مدن وأملاك الدولة البيزنطية وبلغاريا وصربيا تتساقط في أيديهم كأوراق الخريف.
أول معاهدة بين الدولةالعثمانية والمسيحية
لما
اشتد ساعد الدولة العثمانية خاف مجاوروها، خصوصاً الضعفاء منهم، فبادرت
جمهورية (راجوزه) وأرسلت إلى السلطان مراد رسلاً ليعقدوا مع السلطان مراد
معاهدة ودية وتجارية تعاهدوا فيها بدفع جزية سنوية قدرها 500 دوكا ذهب،
وهذه أول معاهدة عقدت بين الدولة العثمانية والدول المسيحية.
معركة قوصره
كان السلطان مراد قد توغل في بلاد البلقان بنفسه وعن طريق قواده؛ مما أثار الصرب، فحاولوا في أكثر من مرة استغلال غياب السلطان عن أوروبا
في الهجوم على الجيوش العثمانية في البلقان وما جاورها ولكنهم فشلوا في
تحقيق انتصارات تذكر على العثمانيين، فتحالف الصرب والبومسلمون والبلغار
وأعدوا جيشاً أوروبياً صليبياً كثيفاً لحرب السلطان الذي كان قد وصل بجيوشه
بعد إعدادها إعداداً قوياً إلى منطقة كوسوفا في البلقان.
ومن
الموافقات التي تذكر أن وزير السلطان مراد الذي كان يحمل معه مصحفاً فتحه
على غير قصد فوقع نظره على هذه الآية: {يا أيها النبي حرض المؤمنين على
القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا
ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون} (سورة الأنفال: الآية 65)
فاستبشر بالنصر واستبشر معه المسلمون..
وكان السلطان قد تضرع إلى الله تعالى قبل المعركة:
"يا الله يا رحيم يا رب السموات يا من تتقبل الدعاء لا تخزني يا رحمن يا
رحيم استجب دعاء عبدك الفقير هذه المرة. أرسل السماء علينا مدراراً وبدد
سحب الظلام فنرى عدونا وما نحن سوى عبيدك المذنبين، إنك الوهاب ونحن
فقراؤك. ما أنا سوى عبدك الفقير المتضرع، وأنت العليم يا علام الغيوب
والأسرار وما تخفي الصدور ليس لي من غاية لنفسي ولا مصلحة ولا يحملني طلب
المغنم فأنا لا أطمع إلا في رضاك يا الله يا عليم يا موجود في كل الوجود..
فتقبل رجائي ولا تجعل المسلمين يبوء بهم الخذلان أمام العدو. يا الله يا
أرحم الراحمين لا تجعلني سبباً في موتهم، بل اجعلهم المنتصرين..".
وفي
رواية : "يا إلهي، إنني أقسم بعزتك وجلالك أنني لا أبتغي من جهادي هذه
الدنيا الفانية، ولكنني أبتغي رضاك، ولا شيء غير رضاك يا إلهي، إنني أقسم
بعزتك وجلالك أنني في سبيلك، فزدني تشريفاً بالموت في سبيلك".
ولم يلبث أن نشب القتال بين الجمعين وحمي وطيسه واشتدت المعركة وانجلت الحرب عن انتصار المسلمين انتصاراً باهراً حاسماً.
بعد
الانتصار في قُوصُوه قام السلطان مراد يتفقد ساحة المعركة ويدور بنفسه بين
صفوف القتلى من المسلمين ويدعو لهم، كما كان يتفقد الجرحى، وفي أثناء ذلك
قام جندي من الصرب كان قد تظاهر بالموت وأسرع نحو السلطان فتمكن الحراس من
القبض عليه، ولكنه تظاهر بأنه جاء يريد محادثة السلطان ويريد أن يعلن
إسلامه على يديه، وعند ذلك أشار السلطان للحرس بأن يطلقوه فتظاهر بأنه يريد
تقبيل يد السلطان وقام في حركة سريعة بإخراج خنجر مسموم طعن به السلطان
فاستشهد رحمه الله في 15 شعبان 791هـ.
ومن الكلمات الأخيرة للسلطان مراد:
"لا
يسعني حين رحيلي إلا أن أشكر الله إنه علام الغيوب المتقبل دعاء الفقير،
أشهد أن لا إله إلا الله، وليس يستحق الشكر والثناء إلا هو، لقد أوشكت
حياتي على النهاية ورأيت نصر جند الإسلام. أطيعوا ابني يزيد، ولا تعذبوا
الأسرى ولا تؤذونهم ولا تسلبوهم. وأودعكم منذ هذه اللحظة وأودع جيشنا
الظافر العظيم إلى رحمة الله فهو الذي يحفظ دولتنا من كل سوء".
لقد
ورث مراد الأول عن والده إمارة كبيرة بلغت 95000 كيلومتر مربع، وعند
استشهاده تسلم ابنه با يزيد هذه الإمارة العثمانية بعد أن بلغت 500000
كيلومتر مربع بمعنى أنها زادت في مدى حوالي 29 سنة أكثر خمسة أمثال ما
تركها له والده أوروخان.
أما النتائج التي ترتبت على انتصار المسلمين في معركة قوصوه فمنها:
- انتشار الإسلام في منطقة البلقان وتحول عدد كبير من الأشراف القدامى والشيوخ إلى الإسلام بمحض إرادتهم.
-
اضطرت العديد من الدول الأوروبية إلى أن تخطب ود الدولة العثمانية، فبادرت
بعضها بدفع الجزية لهم، وقام البعض الآخر بإعلان ولائه للعثمانيين خشية
قوتهم واتقاء غضبهم.
- امتدت سلطة العثمانيين على أمراء المجر ورومانيا والمناطق المجاورة للأدرياتيك حتى وصل نفوذهم إلى ألبانيا.
بعد
استشهاد السلطان مراد اهتم ابنه بايزيد الأول (791-805 هـ/1389-1402م)
اهتماماً كبيراً بالشؤون العسكرية فاستهدف الإمارات المسيحية في الأناضول،
وخلال عام أصبحت تابعة للدولة العثمانية. وكان بايزيد كمثل البرق في
تحركاته بين الجبهتين البلقانية والأناضولية؛ ولذلك أطلق عليه لقب
"الصاعقة".
ثم شرع بايزيد في إقامة علاقات ودية مع الصرب مع
أنهم كانوا السبب في قيام تحالف بلقاني ضد الدولة العثمانية وكان غرض
بايزيد من هذه العلاقة اتخاذ دولة الصرب كحاجز بينه وبين المجر، وكان يشعر
بضرورة اتخاذ حليف له في سياسته العسكرية النشطة التي استهدفت الإمارات
السلجوقية التركية الإسلامية في آسيا الصغرى؛ ولذلك وافق بايزيد على أن
يحكم الصرب ابنا الملك (لازار) الذي قتل في معركة قوصوه وفرض عليهما أن
يكونا حاكمين على صربيا، يحكمانها حسب قوانين بلاد الصرب وأعرافها
وتقاليدها وعاداتها، وأن يدينان له بالولاء ويقدمان له جزية وعدداً معيناً
من الجنود يشتركون في فرقة خاصة بهم في حروبه، كما تزوج ابنة الملك لازار.
فتح بلغاريا
بعد
أن تم التفاهم مع الصرب وجه بايزيد ضربه خاطفة في عام (797هـ/1393م) إلى
بلغاريا، فاستولى عليها وأخضع سكانها. وكان لسقوط بلغاريا في قبضة الدولة
العثمانية صدىً هائلاً في أوروبا وانتشر الرعب والفزع والخوف أنحاءها وتحركت القوى المسيحية الصليبية للقضاء على الوجود العثماني في البلقان.
قام
سيجسموند ملك المجر والبابا بونيفاس التاسع بالدعوة لتكتل أوروبي صليبي
مسيحي ضد الدولة العثمانية، وكان ذلك التكتل من أكبر التكتلات التي واجهتها
الدولة العثمانية في القرن الرابع عشر الميلادي من حيث عدد الدول التي
اشتركت فيه، ثم أسهمت فيه بالسلاح والعتاد والأموال والقوات وبلغ العدد
الإجمالي لهذه الحملة الصليبية 120000 مقاتل من مختلف الجنسيات (ألمانيا
وفرنسا إنجلترا واسكتلندا وسويسرا ولوكسمبرج والأراضي المنخفضة الجنوبية
وبعض الإمارات الايطالية).
وتحركت الحملة عام (800هـ/1396م) إلى المجر، ولكن زعماءها وقادتها اختلفوا مع سيجسموند قبل بدء المعركة.
فقد
كان سيجسموند يؤثر الانتظار حتى يبدأ العثمانيون الهجوم، ولكن قواد الحملة
شرعوا بالهجوم، وانحدروا مع نهر الدانوب حتى وصلوا إلى نيكوبوليس شمال
البلقان وبدؤوا في حصارها وتغلبوا في أول الأمر على القوات العثمانية، إلا
أن بايزيد ظهر فجأة ومعه حوالي مئة ألف جندي، وهو عدد يقل قليلاً عن التكتل
الأوروبي الصليبي، ولكنه يتفوق عليهم نظاماً وسلاحاً، فانهزم معظم النصارى
ولاذوا بالفرار والهروب وقتل وأسر عدد من قادتهم.
وخرج
العثمانيون من معركة نيكوبوليس بغنائم كثيرة وفيرة واستولوا على ذخائر
العدو. وفي نشوة النصر والظفر قال السلطان بايزيد إنه سيفتح إيطاليا ويطعم
حصانه الشعير في مذبح القديس بطرس بروما.
لقد كان ذلك النصر
المظفر له أثر على بايزيد والمجتمع الإسلامي، فقام بايزيد ببعث رسائل إلى
كبار حكام الشرق الإسلامي يبشرهم بالانتصار العظيم على النصارى، واصطحب
الرسل معهم إلى بلاطات ملوك المسلمين مجموعة منتقاة من الأسرى المسيحيين
باعتبارهم هدايا من المنتصر ودليلاً مادياً على انتصاره.
واتخذ بايزيد لقب (سلطان الروم) كدليل على وراثته لدولة السلاجقة وسيطرته على كل شبه جزيرة الأناضول.
كما
أرسل إلى الخليفة العباسي المقيم بالقاهرة يطلب منه أن يقر هذا اللقب حتى
يتسنى له بذلك أن يسبغ على السلطة التي مارسها هو وأجداده من قبل طابعاً
شرعياً رسمياً فتزداد هيبته في العالم الإسلامي، وبالطبع وافق السلطان
المملوكي برقوق - حامي الخليفة العباسي - على هذا الطلب؛ لأنه يرى بايزيد
حليفه الوحيد ضد قوات تيمورلنك التي كانت تهدد الدولة المملوكية والعثمانية
وهاجر إلى الأناضول آلاف المسلمين الذين قدموا لخدمة الدولة العثمانية.
وكانت
الهجرة مليئة بالجنود، وممن أسهموا في الحياة الاقتصادية والعلمية
والحكومية في إيران والعراق وما رواء النهر- هذا بالإضافة إلى الجموع التي
فرت من أمام الزحف التيمورلنكي على آسيا الوسطى.
وبعد الانتصار
العظيم الذي حققه العثمانيون في معركة نيكوبوليس ثبت العثمانيون أقدامهم في
البلقان، حيث انتشر الخوف والرعب بين الشعوب البلقانية، وخضعت البوسنة
وبلغاريا إلى الدولة العثمانية واستمر الجنود العثمانيون يتتبعون فلول
النصارى في ارتدادهم. وعاقب السلطان بايزيد حكام شبه جزيرة المورة الذين
قدموا مساعدة عسكرية للحلف الصليبي.
السقوطالأول
دخل بايزيد في صراع مع تيمورلنك الذي كان يحكم جزءاً واسعاً من العالم الإسلامي من جهة المشرق وآسيا الوسطى..
وكانت هناك عوامل وأسباب ساهمت في إيجاد الصراع بين تيمورلنك وبايزيد، منها:
-
لجأ أمراء العراق الذين استولى تيمور على بلادهم إلى بايزيد، كما لجأ إلى
تيمور بعض أمراء آسيا الصغرى، وفي كلا الجانبين كان اللاجئون يحرضون من
استجاروا به على شن الحرب ضد الطرف الآخر.
- تشجيع النصارى لتيمورلنك ودفعه للقضاء على بايزيد.
-
الرسائل النارية بين الطرفين، ففي إحدى الرسائل التي بعث بها تيمور إلى
بايزيد أهانه ضمنياً حين ذكّره بغموض أصل أسرته، وعرض عليه العفو على
اعتبار أن آل عثمان قد قدموا خدمات جليلة إلى الإسلام، لكن بايزيد أصر على
التحدي وصرح بأنه سيتعقب تيمور إلى تبريز وسلطانية.
- كان الزعيمان تيمورلنك وبايزيد يسعى كل منهما لتوسيع دولته.
ووقعت
بينهما مواجهات عسكرية قرب أنقرة عام 804هـ/1402م، وانتصر المغول ووقع
بايزيد في الأسر وظل يرسف في أغلاله حتى وافاه الأجل في السنة التالية.
وكانت
الهزيمة بسبب اندفاع وعجلة بايزيد فلم يحسن اختيار المكان الذي نزل فيه
بجيشه الذي لم يكن يزيد عن مئة وعشرين ألف مقاتل بينما كان جيش خصمه لا يقل
عن ثمانمائة ألف، ومات كثير من جنود بايزيد عطشاً لقلة الماء وكان الوقت
صيفاً شديد القيظ.
وفرحت الدول النصرانية في الغرب بنصر تيمورلنك وهزها الطرب لمصرع بايزيد وما آلت إليه دولته من التفكك والانحلال
وبعث ملوك انجلترا وفرنسا وقشتالة وإمبراطور القسطنطينية إلى تيمورلنك
يهنئونه على ما أحرزه من النصر العظيم والظفر المجيد. واعتقدت أوروبا أنها قد تخلصت إلى الأبد من الخطر العثماني الذي طالما روعها وهددها..
واستولى
تيمورلنك بعد هزيمة بايزيد على أزنيق وبروسة وغيرها من المدن والحصون ثم
دك أسوار أزمير وخلصها من قبضة فرسان رودس (فرسان القديس يوحنا)؛ محاولاً
بذلك أن يبرر موقفه أمام الرأي العام الإسلامي الذي اتهمه بأنه وجه ضربة
شديدة إلى الإسلام بقضائه على الدولة العثمانية. وحاول تيمورلنك بقتاله
لفرسان القديس يوحنا أن يضفي على معارك الأناضول طابع الجهاد.
كما
أعاد تيمورلنك أمراء آسيا الصغرى إلى أملاكهم السابقة، ومن ثم استرجاع
الإمارات التي ضمها بايزيد، كما بذر تيمور بذور الشقاق بين أبناء بايزيد
المتنازعين على العرش.
إضافة إلى تلك الهزيمة تعرضت الدولة
العثمانية لخطر داخلي تمثل في نشوب حرب أهلية في الدولة بين أبناء بايزيد
على العرش، واستمرت هذه الحرب عشر سنوات (806-816هـ/1403-1413م).
ويمكن أن نعتبر هذا الوضع بمثابة السقوط الأول للدولة العثمانية، قبل أن تسقط السقوط الأخير وتتفكك في آخر عهدها..
يصف الدكتور الصلابي هذه المرحلة الحرجة بأنها:
"مرحلة اختبار وابتلاء سبقت التمكين الفعلي المتمثل في فتح القسطنطينية،
ولقد جرت سنة الله تعالى ألا يمكن لأمة إلا بعد أن تمر بمراحل الاختبار
المختلفة، وإلا بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الأحداث، فيميز الله الخبيث
من الطيب، وهي سنة جارية على الأمة الإسلامية لا تتخلف. فقد شاء الله تعالى
أن يبتلي المؤمنين، ويختبرهم، ليمحص إيمانهم، ثم يكون لهم التمكين في
الأرض بعد ذلك".
صمد العثمانيون لمحنة أنقرة بالرغم مما
عانوه من خلافات داخلية، إلى أن انفرد محمد الأول بالحكم في عام 1413م،
وأمكنه لمّ شتات الأراضي التي سبق للدولة أن فقدتها. إن إفاقة الدولة
من كارثة أنقرة يرجع إلى منهجها الرباني الذي سارت عليه حيث جعل من
العثمانيين أمة متفوقة في جانبها العقدي والديني والسلوكي والأخلاقي
والجهادي وبفضل الله حافظ العثمانيون على حماستهم الدينية وأخلاقهم
الكريمة. ثم بسبب المهارة النادرة التي نظم بها أورخان وأخوه علاء الدين
دولتها الجديدة وإدارة القضاء المثيرة للإعجاب والتعليم المتواصل لأبناء
وشباب العثمانيين وغير ذلك من الأسباب التي جعلت في العثمانيين قوة حيوية
كاملة، فما لبثت هذه الدولة بعد كارثة أنقرة إلا انبعثت من جديد من بين
الأنقاض والأطلال وانتعشت وسرى في عروقها ماء الحياة، وروح الشريعة،
واستأنفت سيرها إلى الأمام في عزم وإصرار حير الأعداء والأصدقاء، حسب وصف
الصلابي.
توحيد الجبهة الداخلية
تولى
السلطان مراد الثاني أمر الدولة بعد وفاة أبيه عام (824هـ/1421م)، وكان
عمره لا يزيد على ثماني عشرة سنة وكان محباً للجهاد في سبيل الله، والدعوة
إلى الإسلام في ربوع أوروبا.
استطاع السلطان مراد أن يقضي على
حركات التمرد الداخلية التي قام بها عمه مصطفى والتي كانت تدعم من قبل
أعداء الدولة العثمانية. وكان الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني خلْف
الدسائس والمؤامرات والمتاعب التي تعرض لها السلطان مراد، فهو الذي دعم عمّ
السلطان مراد - الذي اسمه مصطفى - بالمساعدات حتى استطاع أن يحاصر مدينة
غاليبولي ابتغاء انتزاعها من السلطان واتخاذها قاعدة له إلا أن السلطان
مراد قبض على عمه وقدمه للمشنقة. ومع ذلك، فقد مضى الإمبراطور مانويل
الثاني يكيد للسلطان واحتضن شقيقاً لمراد الثاني، ووضعه على رأس قوة استولت
على مدينة نيقيافي الأناضول، وسار إليه مراد واستطاع أن يقضي على قواته
واضطر خصمه للاستسلام ثم قتل.
ومن ثم صمم السلطان مراد أن يلقن
الإمبراطور درساً عملياً، فأسرع باحتلال سلولنيك، فهاجمها ودخلها عنوة في
مارس 1431م (833هـ)، وأصبحت جزءً لا يتجزأ من الدولة العثمانية.
وكان السلطان مراد يوجه الضربات الموجعة لحركات التمرد في بلاد البلقان، وحرص على تدعيم الحكم العثماني في تلك الديار، واتجه الجيش العثماني
نحو الشمال لإخضاع إقليم ولاشيا وفرض عليه جزية سنوية، واضطر ملك الصرب
الجديد (ستيف لازار ميتش) إلى الخضوع للعثمانيين والدخول تحت حكمهم وجدد
ولاءه للسلطان، واتجه جيش عثماني نحو الجنوب، حيث قام بتوطيد دعائم الحكم العثماني في بلاد اليونان.
نحو ألبانياوالمجر
ولم يلبث السلطان أن واصل جهاده الدعوي وقام بالقضاء على العوائق في كل من ألبانيا والمجر.
واستطاع
العثمانيون أن يفتحوا ألبانيا عام (834هـ/1431م) وركزوا هجومهم على الجزء
الجنوبي من البلاد. أما شمالي ألبانيا، فقد خاض العثمانيون فيه جهاداً
مريراً، وتمكن الألبانيون الشماليون من القضاء على جيشين عثمانيين في جبال
البانيا، كما ألحقوا الهزيمة بحملتين عثمانيتين متعاقبتين كان يقودهما
السلطان مراد بنفسه، وتكبد العثمانيون خسائر فادحة أثناء عملية الانسحاب،
ووقفت الدول النصرانية خلف الألبان لدعمهم ضد العثمانيين وخصوصاً من حكومة
البندقية التي كانت تدرك خطورة الفتح العثماني
لهذا الإقليم المهم بشاطئيه وموانئه البحرية التي تربط البندقية بحوض
البحر المتوسط والعالم الخارجي، وأنهم في استطاعتهم حجز سفن البنادقة داخل
بحر مغلق هو بحر الأدرياتيك.
وهكذا لم يشهد السلطان مراد الثاني استقراراً للحكم العثماني في ألبانيا.
وأما
ما يتعلق بجبهة المجر، فقد استطاع العثمانيون في عام (842هـ/1438م) أن
يهزموا المجريين ويأسروا منهم سبعين ألف جندي وأن يستولوا على بعض المواقع،
ثم تقدم لفتح بلغراد عاصمة الصرب، ولكنه أخفق في محاولته وسرعان ما تكون
حلف صليبي كبير باركه البابا واستهدف هذا الحلف طرد العثمانيين من أوروبا كلية.
وشمل
الحلف البابوية والمجر وبولندا والصرب وبلاد الأفلاق وجنوة والبندقية
والإمبراطورية البيزنطية ودوقية برجنديا، وانضمت إلى الحلف أيضاً كتائب من
الألمان والتشيك.
وأعطيت قيادة قوات الحلف الصليبي إلى قائد
مجري قدير هو يوحنا هنيادي. وقد قاد هنيادي القوات الصليبية البرية وزحف
جنوباً واجتاز الدانوب وأوقع بالعثمانيين هزيمتين فادحتين عام ( 846هـ/
442م ). واضطر العثمانيون إلى طلب الصلح وأبرمت معاهدة صلح لمدة عشر سنوات
في "سيزجادن" وذلك في شهر يوليو عام 1444م تنازل فيها عن الصرب واعترف
"بجورج برانكوفيتش" أميراً عليها. كما تنازل السلطان مراد عن الأفلاق
للمجر، وافتدى زوج ابنته محمود شلبي الذي كان قائداً عاماً للجيوش
العثمانية، بمبلغ 60 ألف دوقية.. وقد حررت هذه المعاهدة باللغتين
العثمانية، والمجرية وأقسم لاديسلاسي ملك المجر على الإنجيل كما اقسم
السلطان مراد بالقرآن على أن تراعي شروط المعاهدة بذمة وشرف.
وما
لبث النصارى أن نقضوا عهودهم، وحشدوا الجيوش لمحاربة المسلمين، وحاصروا
مدينة " فارنا " البلغارية الواقعة على ساحل البحر الأسود، والتي كانت قد
تحررت على أيدي المسلمين.
وعندما تحرك النصارى وزحفوا نحو
الدولة العثمانية وسمع المسلمون في أدرنه بحركة الصليبيين وزحفهم انتابهم
الفزع والرعب وبعث رجال الدولة إلى السلطان مراد يستعجلون قدومه لمواجهة
هذا الخطر وخرج السلطان المجاهد ليقود جيوش العثمانيين ضد الخطر الصليبي.
واستطاع مراد أن يتفق مع الأسطول الجنوي لينقل أربعين ألفاً من الجيش العثماني من آسيا إلى أوروبا تحت سمع الأسطول الصليبي وبصره في مقابل دينار لكل جندي.
وأسرع
السلطان مراد في السير فوصل وارنه في نفس اليوم الذي وصل فيه الصليبيون.
وفي اليوم التالي نشبت المعركة بين الجيشين النصراني والإسلامي وكانت عنيفة
حامية وقد وضع السلطان مراد المعاهدة التي نقضها أعداؤه على رأس رمح
ليشهدهم ويشهد السماء والأرض على الغدر والعدوان وليزيد حماس جنده. واقتتل
الفريقان، ودارت بينهما معركة رهيبة كاد يكون فيها النصر للنصارى نتيجة
حميتهم الدينية وحماسهم الزائد إلا أن تلك الحماية والحماس الزائد اصطدم
بالروح الجهادية لدى العثمانيين، والتقى الملك لاديسلاس - ناقض العهود - مع
السلطان مراد الوفي بالعهود وجهاً لوجه واقتتلا، ودارت بينهما معركة
رهيبة، تمكن السلطان المسلم من قتل الملك المجري النصراني، فقد عاجله بضربة
قوية من رمحه أسقطته من على ظهر جواده فأسرع بعض المجاهدين وجزوا رأسه
ورفعوه على رمح مهللين مكبرين وفرحين.. وكان لذلك المنظر أثر شديد على جموع
النصارى، فاستحوذ عليهم الفزع والهلع، فحمل عليهم المسلمون حملة قوية،
بددت شملهم وهزموهم شر هزيمة، وولى النصارى مدبرين يدفع بعضهم ولم يطارد
السلطان مراد عدوه واكتفى بهذا الحد من النصر